بقلم / حسام الغمري
كانت مِصر قبلة الأوروبيين الباحثين عن العملِ أثناء الحقبة الليبرالية ، لا سيما في زمنِ الحربينِ العالميتينِ ، ومَن يزورُ الأسكندرية يَسمعُ قصصاً عن الحلاقِ الايطالي ، وعامل المقهى اليوناني ، والسائق المالطي ، ومصمم الأزياءِ الأرميني ، كانت أرضُ مِصر وخيراتِها تَسعَهم جَميعَهم حينما كانت أوروبا تُعاني ويلات الدمار، ولكن تبدل الحال بعد وصول العسكر إلى سُدةِ الحكمِ عبر إنقلابٍ عَسكري مَشبوه ، دأبوا بعده على إفقارِ مِصر والعبث بمقدراتها وحرمانها من كل مميزاتها النسبية التي لخصها المؤرخ الكبير جمال حمدان بعبارة قصيرة ولكنها شاملة وشامخة هي عبقرية المكان .
ومنذ نهايات العقد السادس من القرن الماضي صار حُلم الشبابِ في مصر هو السفرُ بحثاً عن فرصة عملٍ في الخارج ، بل دعونا نقول ، عن حياة آدمية ، بها الحدود الدنيا مما ينعم به انسان العصر الحديث ، وذلك في بلاد ليست على قدرِ حضارتنا وتاريخنا واسهاماتنا الايجابية في المنطقة العربية والعالم ، فتذوقنا فِراقَ الأب والعم والخال ونحن أطفال صغار ، وحرمنا دفء العائلة كما تمتع به الجدود، والانسان المصري يختلف عن العالمين بقوةِ ارتباطه بوطنه ، وحنينه الدائم إليه ، ولو كان يعيش في أجمل بلاد الدنيا ، ولقد عبر عن ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي أثناء منفاهُ بالأندلسِ أثناء الحرب العالمية الأولى بأروع الأبيات منها :-
وسَلا مصرَ:هل سلا القلب عنها .. أو أسا جرحَه الزمان المؤسّي؟
وطني لو شغلت بالخلد عنه … نازعتني إليه في الخلد نفسي
كما كشفت رسائلة المتبادلة مع الشاعر حافظ إبراهيم عن شوق ما بعده شوق ، لبلاد هي دبيب الروح في الأوصال ونبض القلب في العروق لكل أبنائها المغتربين ، حيث قال:
يا ساكني مصرَ إنّا لا نزالُ على … عهد الوفاء -وإن غِبْنا- مُقيمينا
هلّا بعثتُم لنا من ماءِ نهرِكُمُ … شيئاً نبلُّ به أحشاءَ صادِينا
كل المناهلِ بعد النيلِ آسِنَةٌ … ما أبعدَ النيلَ إلا عن أمانينا
فرد عليه حافظ إبراهيم قائلاً :-
عجبْتُ للنيل يدري أن بُلبُلَهُ … صادٍ ويسقي رُبا مصرٍ ويَسقينا
والله ما طابَ للأصحابِ موردُهُ … ولا ارتَضَوا بعدكُم من عيشهم لينا
لم تَنْـأ عنهُ وإن فارَقْتَ شاطِئَهُ … وقد نأَيْـنـا وإنْ كُـنّـا مُـقيـميـنا
وبمرور الوقت أصبحت أعداد المصريين في الخارج تقدرُ بعشرةِ ملايين ، وقد أظهرت بيانات البنك المركزي أن تحويلات المصريين العاملين بالخارج حققت أعلى حصيلة سنوية في تاريخها خلال العام المالي الماضي ، وبحسب بيان من البنك المركزي ، سجلت تحويلات المصريين بالخارج نحو 27.8 مليار دولار في عام 2019-2020 ، مقابل نحو 25.2 مليار دولار خلال عام 2018-2019، بنسبة زيادة 10.4% ، بما يعني باختصار أنها أموال تضخ داخل الاقتصاد المصري ، تنعش حركة السوق ، وتخفي الكوارث بل الجرائم الاقتصادية للنظام العسكري ونحره الدائم لثروات بلدنا ، ونستطيع تأكيد أن المصريين في الخارج يكفلون نصف أعداد المصريين في الداخل في النفقات أو ثلثهم بأقلِ التقديرات ، ومع ذلك يخرج علينا رأس النظام الانقلابي من حين إلى آخر بانشودة تحديد النسل البالية المورثة من عهد عبد الناصر !!
وفي المقابل ، ما هو مقدار الدعم الذي يحصل عليه المصريون في الخارج من السفارات والقنصليات المصرية ؟ بل هل ينعمون بالحد الأدني من المعاملة الحسنة لا أقول الراقية داخل السفارات ؟ وماذا عن سرعة الاجراءات لا سيما اصدار الأوراق الرسمية ؟ وهل الرسوم التي تُطلب مقبولة ، مقارنة بعمليات الانقاذ المستمرة التي يرفع بها المصريون بالخارج بتحويلاتهم النقدية كثير من الحرج عن أداء النظام الاقتصادي ؟!وعند عودتهم إلى مصر لقضاءِ الإجازات مع الأهلِ والأحباب ، هل يمَنحهم النظامُ أفضليةً في المعاملةِ داخل المطارات ، هل يمَنحهم تخفيضاتً في الجمارك ؟ بل هل يَشمل أسرهم بالرعاية أثناء غربتهم المفروضةِ عليهم ؟ هل يهتم بتعليم أبناءهم ، أم يعايرهم بالانجاب ؟!
ان النظامَ العسكري يتعاملُ مع المصريين في الخارج تعامل الكهل المريض الذي يحتاج إلى انقاذ الطبيب ومع ذلك يزدريه ويسيء إليه ، بل ينفث حقده في وجهه بمجرد ذِهابَه إلى سفارةِ بلاده أو عودته إلى وطنه !! ويجب على المصريين في الخارج ، وهم الدجاجة التي تبيض لاقتصاد العسكر ذهبا دون عناءٍ منه ، أن يتوحدوا في كياناتٍ سياسية مؤثرة وفعالة ، وتكوين جماعات ضغط حاسمة وجادة ، تخاطب النظام العسكري بما يستحق ، من منطلق القوة المبنية على كرم العطاء وأَهميته ، فلو أنصف هذا النظام لأحتفى بكلِ مصري يعمل بالخارج عند عودته لبلاده، ولكن .. منذ متى عرف هذا النظام معنى الانصاف !!